فصل: (سورة السجدة: آية 4).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

قوله عزّ وجلّ: {الم تَنزيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فيه من رَّبّ العالمين أَمْ يَقُولُونَ}.
أي، بل يقولون وقيل: الميم صلة، أي أيقولون استفهام توبيخ. وقيل: هو بمعنى الواو يعني ويقولون. وقيل: فيه إضمار مجازه: فهل يؤمنون به، أَمْ يقولون: {افتراه} ثمّ قال: {بَلْ هُوَ الحق من رَّبّكَ لتُنذرَ قَوْمًا مَّآ أَتَاهُم مّن نَّذيرٍ} أي لم يأتهم {مّن نَّذيرٍ مّن قَبْلكَ}.
قال قتادة: كانوا أُمّةً أُمّيّة لم يأتهم نذير قبل محمّد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عبّاس ومقاتل: ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمّد عليهما السلام.
{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا في ستَّة أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش مَا لَكُمْ مّن دُونه من وَليٍّ وَلاَ شَفيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبّرُ الأمر منَ السماء إلَى الأرض} أي ينزل الوحي مع جبرائيل من السماء إلى الأرض {ثُمَّ يَعْرُجُ} يصعد {إلَيْه} جبرائيل بالأمر في يوم واحد من أيّام الدُّنيا، وَقَدْرُ مسيره ألف سنة، خمسمائة نزوله من السماء إلى الأرض، وخمسمائة صعوده من الأرض إلى السماء. وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة يقول: لو ساره أحد من بني آدم لم يسره إلاّ في ألف سنة، والملائكة يقطعون هذه المسافة بيوم واحد، فعلى هذا التأويل نزلت الآية في وصف مقدار عروج الملائكة من الأرض إلى السماء، ونزولهم من السماء إلى الأرض، وأمّا قوله: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إلَيْه في يَوْمٍ كَانَ مقْدَارُهُ خَمْسينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فإنّه أراد مدّة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها مقام جبرائيل عليه السلام.
يقول: يسير جبرائيل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيّام الدنيا، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة والضحّاك، وأمّا معنى قوله: {إلَيْه} على هذا التأويل فإنّه يعني إلى مكان الملك الذي أمره الله أنْ يعرج إليه، كقول إبراهيم عليه السلام {إنّي ذَاهبٌ إلى رَبّي} [الصافات: 99] وإنّما أراد أرض الشام. وقال: {وَمَن يَخْرُجْ من بَيْته مُهَاجرًا إلَى اللَّه} أي إلى المدينة، ولم يكن الله تعالى بالمدينة ولا بالشام.
أخبرني ابن فنجويه، عن هارون بن محمد بن هارون، عن حازم بن يحيى الحلواني، عن محمد بن المتوكل، عن عمرو بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبدالله عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني ملك برسالة من الله عزّ وجلّ، ثمّ رفع رجله فوضعها فوق السماء، والاُخرى في الأرض لم يرفعها». وقال بعضهم معناه: يُدَّبرُ الأَمْرَ منَ السَّمَاء إلى الأرض مدّة أيّام الدنيا، ثمّ يَعْرُجُ إليه الأمر والتدبير، ويرجع يعود إليه بعد انقضاء الدنيا وفنائها {في يَوْمٍ كَانَ مقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} وهو يوم القيامة.
وأمّا قوله: {خَمْسينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فإنّه أراد على الكافر، جعل الله ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة، وعلى المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاّها في دار الدنيا. ويجوز أن يكون ليوم القيامة أوّل وليس له آخر وفيه أوقات شتّى بعضها ألف سنة وبعضها خمسين ألف سنة. ويجوز أن يكون هذا إخبار عن شدّته وهوله ومشقّته لانّ العرب تصف أيّام المكروه بالطّول وأيّام السرور بالقصر، وإلى هذا التأويل ذهب جماعة من المفسّرين.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريح قال: أخبرني ابن أبي مليكة قال: دخلت أنا وعبدالله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان على ابن عبّاس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية، فقال له ابن عبّاس: مَنْ أنت؟ قال: أنا عبدالله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان، فقال عبدالله بن عبّاس: أيّام سمّاها الله لا أدري ما هي، وأكره أنْ أقول في كتاب الله ما لا أعلم. قال ابن أبي مليكة: فضرب الدهر حتّى دخلتُ على سعيد بن المسيّب فسئل عنها فلم يدر ما يقول، فقلت له: ألا أخبرك ما حضرتُ من ابن عبّاس، فأخبرته، فقال ابن المسيب للسائل: هذا ابن عبّاس قد اتّقى أنْ يقول فيها وهو أعلم منّي.
قوله: {ذلك عَالمُ الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قرأ نافع وأهل الكوفة {خَلَقه} بفتح اللاّم على الفعل، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ثمّ قالا: لسهولتها في المعنى وهي قراءة سعيد بن المسيب. وقرأ الآخرون بسكون اللام. قال الأخفش: هو على البدل ومجازه: الذي أحسَنَ خلقَ كلّ شيء.
قال ابن عبّاس: أتقنه وأحكمه، ثمّ قال: أما إنَّ أست القرد ليست بحسنة ولكنّه أحكم خلقها. وقال قتادة: حسنُه. مقاتل: علم كيف يخلق كلّ شيء، من قولك فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه.
{وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان} يعني آدم عليه السلام {من طينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} ذريته {من سُلاَلَةٍ} من نطفة، سمّيت بذلك لانّها تنسل من الإنسان، أي تخرج، ومنه قيل للولد: سلالة. وقال ابن عبّاس: وهي صفو الماء {مّن مَّاءٍ مَّهينٍ} ضعيف {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فيه من رُّوحه وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَليلًا مَّا تَشْكُرُونَ وقالوا} يعني منكري البعث، {أَإذَا ضَلَلْنَا في الأرض} أي أُهلكنا وبطلنا وصرنا ترابًا، وأصله من قول العرب: ضلّ الماء في اللبن إذا ذهب، ويقال: أضللت الميّت أي دفنته. قال الشاعر:
وأب مُضلوهُ بغير جَلية ** وغُودر بالجولان جرم ونائل

وقرأ ابن محيصن بكسر اللام {ضللنا} وهي لغة. وقرأ الحسن والأعمش {ضَلَلْنَا} بالصاد غير معجمة أي أَنتنّا، وهي قراءة عليّ رضي الله عنه.
أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شنبه قال: أخبرني أبو حامد المستملي، عن محمد بن حاتم الكرخي أبو عثمان النحوي، عن المسيب بن شريك، عن عبيدة الضبي، عن رجل، عن علي أنّه قرأ أَءذَا ضللنا أي أنتنّا. قال محمّد بن حاتم: يقال: صلَّ اللّحم وأصل إذا أنتن.
{أَإنَّا لَفي خَلْقٍ جَديدٍ} قال الله: {بَلْ هُم بلَقَاء رَبّهمْ كَافرُونَ}.
قوله عزّ وجلّ: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم} بقبض أرواحكم {مَّلَكُ الموت الذي وُكّلَ بكُمْ} قال مجاهد: حويت له الأرض فجُعلت له مثل طست يتناول منها حيث يشاء، وقال مقاتل والكلبي: بلغنا أنَّ اسم ملك الموت عزرائيل وله أربعة أجنحة: جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، وجناح له في أقصى العالم من حيث يجيء ريح الصبا، وجناح من الأفق الآخر. ورجل له بالمشرق، والأخرى بالمغرب، والخلق بين رجليه، ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض، وجُعلت له الدنيا مثل راحة اليد، صاحبها يأخذ منها ما أَحبّ في غير مشقة ولا عناء، أي مثل اللّبنة بين يديه فهو يقبض أنْفُس الخلق في مشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبدالله بن يوسف بن أحمد بن مالك عن الخطّاب بن أحمد بن عيسى قال: أخبرني أبو نافع أحمد بن كثير، عن كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم عن ابن عبّاس قال: إنّ خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب.
وأخبرنا الحسين بن محمد، عن عبدالله بن يوسف، عن عبد الرحيم بن محمد، عن سلمة ابن شبيب، عن الوليد بن سلمة الدمشقي، عن ثور بن يزيد عن خالد بن معد، عن معاذ بن جبل قال: إنّ لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهو يتصفّح وجوه الناس، فما من أهل بيت إلاّ وملك الموت يتفحّصهم في كلّ يوم مرّتين، فإذا رأى إنسانًا قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة، وقال: الآن يزار بك عسكر الأموات.
وأخبرنا الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبدالله بن أحمد ابن حنبل، عن أَبي، عن عبدالله بن نميرة عن الأعمش عن خيثمة وعن شهر بن حوشب قال: دخل ملك الموت على سليمان، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم إليه النظر، فلمّا خرج قال الرجل: من هذا؟ قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته ينظر إليَّ كأنّه يريدني، قال: فما تريد؟ قال: أريد أن تحملني على الريح فتلقيني بالهند، فدعا بالريح فحملته عليها فألقته بالهند، ثمّ أتى ملك الموت سليمان عليه السلام فقال: إنّك كنت تديم النظر إلى رجل من جلسائي، قال: كنتُ أعجبُ منه إنّي أُمرت أنْ أقبضَ روحه بالهند وهو عندك.
فإن قيل: ما الجامع بين قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] و{تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة} [النحل: 28] و{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] وقوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حينَ مَوْتهَا} [الزمر: 42] و{وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل} [الأنعام: 60].
قيل: تَوفّي الملائكة: القبض والنزع. وتوفّي ملك الموت: الدعاء والأمر، يدعو الأرواح فتجيبه ثمّ يأمر أعوانه بقبضها، وتوفّي الله سبحانه: خلق الموت، والله أعلم.
قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إذ المجرمون نَاكسُوا رُءُوسهمْ} أي مطأطئوا رءوسهم {عندَ رَبّهمْ} حياءً منه للذي سلف من معاصيهم في الدنيا يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا} ماكنّا به مكذّبين {وَسَمعْنَا} منك تصديق ما أتتنا به رسلك {فارجعنا} فأرددنا إلى الدنيا {نَعْمَلْ صَالحًا إنَّا مُوقنُونَ} وجواب لو مضمر مجازه: لرأيت العجب {وَلَوْ شئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} رشدها وتوفيقها للإيمان {ولكن حَقَّ} وجب وسبق {القول منّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ منَ الجنة والناس أَجْمَعينَ} وهو قوله لأبليس {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ منكَ وَممَّن تَبعَكَ منْهُمْ أَجْمَعينَ} [ص: 85]. ثمّ يقال لأهل النار: {فَذُوقُوا بمَا نَسيتُمْ لقَاءَ يَوْمكُمْ هذآ} أي تركتم الإيمان به {إنَّا نَسينَاكُمْ} تركناكم في النار {وَذُوقُوا عَذَابَ الخلد بمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، عن أحمد بن الحسن بن ماجة القزويني، عن الحسن ابن أيّوب القزويني، عن عبدالله بن أبي زياد القطواني، عن سيار حماد الصفار، عن حجاج الأسود، عن جبلة، عن مولى له، عن كعب قال: إذا كان يوم القيامة يقوم الملائكة فيشفعون، ثمّ يقوم الأنبياء فيشفعون، ثمّ يقوم الشهداء فيشفعون ثمّ يقوم المؤمنون فيشفعون. حتّى انصرمت الشفاعة كلّها فلم يبق أحد، خرجت الرحمة، فتقول: ياربّ أنا الرحمة فشفّعني، فيقول: قد شفّعتك، فتقول: ياربّ فيمَن؟ فيقول: في مَن ذكرني في مقام وخافني فيه أو رجاني أو دعاني دعوة واحدة خافني أو رجاني فأخرجيه، قال: فيخرجون فلا يبقى في النار أحد يعبأ الله به شيئًا، ثمّ يعظم أهلها بها، ثمّ يأمر بالنار فتقبض عليهم فلا يدخل فيها رَوح أبدًا، ولا يخرج منها غمٌّ أبدًا وقيل: {اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسيتُمْ لقَاءَ يَوْمكُمْ هذا} [الجاثية: 34]. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة السجدة مكية إلا من آية 16 إلى غاية آية 20 فمدنية، وآياتها 30 وقيل 29، نزلت بعد المؤمنون.
بسْم اللَّه الرَّحْمن الرَّحيم.

.[سورة السجدة: الآيات 1- 3].

{الم (1) تَنْزيلُ الْكتاب لا رَيْبَ فيه منْ رَبّ الْعالَمينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ منْ رَبّكَ لتُنْذرَ قَوْمًا ما أَتاهُمْ منْ نَذيرٍ منْ قَبْلكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)}.
{الم} على أنها اسم السورة مبتدأ خبره {تَنْزيلُ الْكتاب} وإن جعلتها تعديدا للحروف ارتفع {تَنْزيلُ الْكتاب} بأنه خبر مبتدإ محذوف: أو هو مبتدأ خبره {لا رَيْبَ} فيه والوجه أن يرتفع بالابتداء، وخبره منْ رَبّ الْعالَمينَ ولا رَيْبَ فيه: اعتراض لا محل له. والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أي في كونه منزلا من رب العالمين ويشهد لوجاهته قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} لأنّ قولهم: هذا مفترى، إنكار لأن يكون من رب العالمين، وكذلك قوله: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ منْ رَبّكَ} وما فيه من تقدير أنه من اللّه، وهذا أسلوب صحيح محكم: أثبت أوّلا أن تنزيله من رب العالمين، وأن ذلك ما لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى: بل والهمزة، إنكارا لقولهم وتعجيبا منه لظهور أمره: في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه، ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك. ونظيره أن يعلل العالم في المسألة بعلة صحيحة جامعة، قد احترز فيها أنواع الاحتراز، كقول المتكلمين: النظر أوّل الأفعال الواجبة على الإطلاق التي لا يعرى عن وجوبها مكلف، ثم يعترض عليه فيها ببعض ما وقع احترازه منه، فيرده بتلخيص أنه احترز من ذلك، ثم يعود إلى تقرير كلامه وتمشيته. فإن قلت: كيف نفى أن يرتاب في أنه من اللّه، وقد أثبت ما هو أطم من الريب، وهو قولهم افْتَراهُ؟ قلت: معنى لا رَيْبَ فيه أن لا مدخل للريب في أنه تنزيل اللّه، لأن نافى الريب ومميطه معه لا ينفك عنه وهو كونه معجزا للبشر، ومثله أبعد شيء من الريب. وأما قولهم افْتَراهُ فإما قول متعنت مع علمه أنه من اللّه لظهور الإعجاز له، أو جاهل يقوله قبل التأمل والنظر لأنه سمع الناس يقولونه {ما أَتاهُمْ منْ نَذيرٍ منْ قَبْلكَ} كقوله: {ما أنذر آباؤهم} وذلك أن قريشا لم يبعث اللّه إليهم رسولا قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم. فإن قلت: فإذا لم يأتهم نذير لم تقم عليهم حجة. قلت: أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا، وأما قيامها بمعرفة اللّه وتوحيده وحكمته فنعم، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} فيه وجهان: أن يكون على الترجي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما كان {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} على الترجي من موسى وهرون عليهما السلام، وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة.

.[سورة السجدة: آية 4].

{اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّماوات وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما في ستَّة أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْش ما لَكُمْ منْ دُونه منْ وَليٍّ وَلا شَفيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)}.
فإن قلت: ما معنى قوله: {ما لَكُمْ منْ دُونه منْ وَليٍّ وَلا شَفيعٍ}؟ قلت: هو على معنيين، أحدهما: أنكم إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم وليا، أي: ناصرا ينصركم ولا شفيعا يشفع لكم. والثاني: أن اللّه وليكم الذي يتولى مصالحكم، وشفيعكم أي ناصركم على سبيل المجاز، لأن الشفيع ينصر المشفوع له، فهو كقوله تعالى: {وَما لَكُمْ منْ دُون اللَّه منْ وَليٍّ وَلا نَصيرٍ} فإذا خذلكم لم يبق لكم ولىّ ولا نصير.

.[سورة السجدة: آية 5].

{يُدَبّرُ الْأَمْرَ منَ السَّماء إلَى الْأَرْض ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْه في يَوْمٍ كانَ مقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ (5)}.
الْأَمْرَ المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا منَ السَّماء إلَى الْأَرْض ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصا كما يريده ويرتضيه إلا في مدة متطاولة، لقلة عمال اللّه والخلص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص، ودل عليه قوله على أثره {قَليلًا ما تَشْكُرُونَ} أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض: لكل يوم من أيام اللّه وهو ألف سنة، كما قال: {وَإنَّ يَوْمًا عنْدَ رَبّكَ كَأَلْف سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ} {ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْه} أي يصير إليه، ويثبت عنده، وبكتب في صحف ملائكته كل وقت من أوقات هذه المدّة: ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها، ثم يدبر أيضا ليوم آخر، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة. وقيل: ينزل الوحى مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض، ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحى أو ردّه مع جبريل، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد. وقيل: يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر كله، أي يصير إليه ليحكم فيه {في يَوْمٍ كانَ مقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} وهو يوم القيامة. وقرأ ابن أبى عبلة: {يعرج} على البناء للمفعول. وقرئ: {يعدون} بالتاء والياء.